6
[الجزء الاوّل ]
المقدّمة
- أ -
وصلّى اللّٰه على محمّدٍ وآلهِ الطاهرين، واللّعنةُ الدائمة المؤبّدة على أعدائهم أجمعين، لى قيام يوم الدِّين.
( 1)
إذا أردتَ يوماً أن تستعرضَ أسماءَ نوابغِ العلمِ علىٰ مدى التاريخ كلّه، فإنّك ستجد نفسكَ مُرغماً على ذِكر الآية العظمى (الشيخ مرتضى الأنصاري) ، كأحد أبرز مَنْ عرفهم التاريخ بالنبوغ والعبقريّة في علمَي الفقه والاُصول.
ويبقى الفارقُ بين الشيخ الأنصاري قدس سره وبين كثيرين ممّن يتصدّرون قائمة نوابغ التاريخ:
أنّك لا تمتلكُ دليلاً علىٰ عبقريّة هؤلاء سوى التعبّد بما يتناقله المؤرِّخون عنهم، غيرَ أنّك عندما تبحث عن دليل ظاهرة النبوغ عند الشيخ الأنصاري، فإنّك ستجد بين يديك معجزتين فائقتين شاهدتين له بالنبوغ العلمي في أقصىٰ درجاته.
المعجزة الاُولى: كتابه الاُصوليّ الرائع (فرائد الاُصول) والمشهور عند أهل العلم باسم (الرسائل) ، والكاشفُ عن خبرويّته وبراعته وسيطرته على المباحث الاُصوليّة، سيما مباحث الاُصول العمليّة.
والمعجزة الثانية: - وهي الأعظمُ شأناً، والأكبرُ قدراً - كتابه الفقهي العظيم (المكاسب) .
أمامَ هذين الكتابين تجد نفسكَ حقّاً أمام معجزتين من معاجز العلم، اللّاتي لا يجودُ بهما الزمان إلّانادراً، ومتىٰ ما سبرتَ غَوْرَ الكتابين المعجزتين دراسةً وتدريساً وبحثاً وتنقيباً، ستتجلّى لك أبعاد إعجازهما، حين تقع منهما على جواهر العلم ولئالئ المعرفة، وتصل إلى نفائس ما اشتملا عليه من شموخ التحقيق والتدقيق.
- ب -
ولعلَّ بقاءهما متربّعين علىٰ عرش مناهج الحوزات العلميّة سطحاً وخارجاً، قرابةَ قرنٍ ونصف من الزمان - يبدأُ منذ رحيل مؤلّفهما العبقري سنة 1281 ه ويستمرّ حتّى يوم الناس هذا - يكفي لإثبات إعجاز الكتابين.
ونظراً لما امتازَ به كتابُ (المكاسب) من العُمق العلمي، فقد صارَ مقياساً عند بعض أساطين العلم لتمييز المجتهد عن غيره، وبمقدار فهم الشخص لآراء الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره يُعلم مستوىٰ ملكتهِ الاجتهاديّة.
( 2)
ولنفسِ اللّحاظ أيضاً صارَ الكتابُ محطَّ أنظار أساطين العلم في الحوزات العلميّة، بينَ كاشفٍ عن غوامض أسراره، وبينَ منقِّبٍ في أعماق أغواره، وجميعهم يتنافسون في تحقيق مطالبه الأنيقة ونكاتِهِ الدقيقة، فكثُرت لذلك شروحهُ وتعاليقهُ وحواشيهِ، حتّى أنّك لا تكاد تقرأ ترجمةً لأحدِ عمالقة الفكر وأكابر العلم إلّاوتجد من آثارهِ ومؤلّفاته شرحاً على كتاب (المكاسب) أو تعليقاً عليه.
وتأتي في طليعة تلك النتاجات العلميّة الرائعة: حاشية المكاسب لسيّد العروة الوثقى السيّد اليزدي، وحاشية المكاسب للمحقّق الآخوند الخراساني، وغاية الآمال للمحقّق الشيخ محمّد حسن المامقاني، وحاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني، والتعليقة على المكاسب للمحقّق التقي الشيرازي، وحاشية المكاسب للمحقّق الهمداني، وحاشية المكاسب لشيخ المحقّقين الإصفهاني، وبُلْغةُ الطالب في شرح المكاسب للمحقّق الشيخ محمّد كاظم الشيرازي قدس سرهم.
هذا سوى تلك المؤلّفات الجليلة التي اتّخذت من كتاب (المكاسب) محوراً تدور عليه أبحاثُها، ويكفيك منها: (مُنية الطالب في شرح المكاسب) تقرير أبحاث المحقّق النائيني، و (مصباح الفقاهة) تقرير أبحاث المحقّق الخوئي0.
وإن دلَّ هذا التكثّرُ - في الشرح والتعليق - علىٰ شيءٍ، فإنّما يدلّ علىٰ مدى المكانة العلميّة التي يحتلّها كتاب (المكاسب) عند عمالقة الفقه.
- ج -
( 3)
وامتداداً لهذه الجهود العلميّة في تجلية معضلات دقائق المسائل التي اشتملَ عليها كتاب (المكاسب) جاء كتاب (منهاج الفقاهة) - لسيّدنا العلّامة المفدّىٰ، الفقيه المحقّق، والاُصولي المدقّق، المرجع الديني الكبير، سماحة آية اللّٰه العظمى، السيّد محمّد صادق الحسيني الروحاني (دامت بركاتُ وجوده الشريف) - ليكون من خيرة الشروح المهمّة علىٰ مكاسب شيخنا الأعظم الأنصاري قدس سره، وشاهدُ ذلكَ تعدّدُ طبعاته، وتضاعفُ الطلبِ عليه.
وقد تحدّث سماحة السيّد (دامت بركاته) حول انطباعاته عن كتاب (المكاسب) ومؤلّفه الشيخ الأعظم، ودوافع تأليفه لشرحه، فقال: «كتابنا (منهاج الفقاهة) . . شرحٌ لكتاب (المكاسب) للشيخ الأعظم، خاتمة الرعيل الأوّل من المجتهدين، وأفضل المتأخّرين، آية اللّٰه العظمى، الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، الذي أصبح اليوم منتجع العلم، ومحور الدراسة في الحوزات العلميّة؛ إذ كانت مباحث هذا الكتاب فاتحةَ عهدٍ جديد مبارك في الدراسات الفقهيّة والتتبّع والتحقيق، تقتضي مزيداً من العناية بشرحها، وتيسير الإطّلاع عليها، وهذا ما توخّيناه في هذا الكتاب» .
ومن خلال هذه السطور التي قرأناها يتّضح أنّ كتاب (المكاسب) - بنظر سماحة السّيد - رغم الحواشي والشروح الكثيرة عليه، إلّاأنّه لا زالَ بحاجةٍ لكشف مغاليقه، وإيضاح غوامضهِ، وهذا ما دعاهُ لتأليف شرحه المبارك ليكون منهاج فقاهة محتويات كتاب (المكاسب) .
( 4)
ويتميّز هذا الكتاب الشريف (منهاج الفقاهة) بعدّة مزايا رائعة، لا بأس بالإشارة السريعة إلى بعضها:
1 - الميزة الاُولى: الدقّة في الانتقاء، فليس المهمّ بنظر سماحة السّيد (دامت ظلاله الوارفة) هو جمع الآراء وعرضها فقط، مع مناقشتها والتعليق عليها، أو اختيار بعضها - د -
وتأييده، بل هو في كلّ مسألةٍ يضع يده على الرأي الذي يراه يتمتّع بنكتةٍ علميّةٍ أساسيّةٍ دقيقةٍ يتفرّد بها، من غير أن يُثقل على القارئ بنقل الآراء الاُخرى، والتي قد لا تتناول سوى بعض المناقشات الجزئيّة غير الدخيلة في أساس المطلب، ومن هنا تراهُ في بعض المسائل يعرض آراء اليزدي والآخوند والإيرواني والإصفهاني قدس سرهم، مع بيان ما لها وما عليها، بينما في بعض المسائل يكتفي بنقل رأي واحدٍ منهم فقط، وليس ذلك إلّالأنّ تنقيح النكات الأساسيّة هو مصبّ اهتمامه.
2 - الميزة الثانية: القدرة على الإيضاح، وقد اشتهر مقولة أحد أساتذة الحوزة العلميّة في قم المقدّسة: بإنّني إذا لم يتّضح لي المراد الجدّي من كلام المحقّق الخوئي قدس سره أرجع لكتاب (زبدة الاُصول) للسيّد الروحاني (دام ظلّه) فأجدهُ قد أوضح ما أُغلقَ عَليَّ ببيانٍ مفهومٍ وجميل.
ونفس هذه المزيّة تتجلّى بوضوح في كتاب (منهاج الفقاهة) ، فإنّ المتتبّع لكلمات أصحاب الحواشي المغلقة علىٰ كتاب (المكاسب) - كالمحقّقين العظيمين الإيرواني والإصفهاني0 - يجد كيف أنّ سماحة السيّد الاُستاذ (دام ظلّه الشريف) قد أخرج عبائرهما من كَتْمِ الإغلاق والتعقيد، وصبّها في قوالب جديدة تتّسم بلطف الصياغة وحُسن البيان، فأوضح بذلك مغلقاتها وحلّ معضلاتها وعالج مبهماتها.
3 - الميزة الثالثة: التركيز على المحاور الأساسيّة، فإنّ الكتاب رغم كونه قد كُتب بصيغة الحاشية والتعليق، وهذا النحو من الكتب وإن كان كاتبهُ غيرَ مقيّدٍ بالتعليق علىٰ موضعٍ خاصٍّ بعينه، بل باختياره أن يُعلِّق على المواضع السهلة ويجتنب المواضع الشائكة، غير أنّ السيّد الاُستاذ (دام ظلّه الشريف) تميّز في تعليقته الشريفة بالتركيز على المحاور الأساسيّة والمواضع الدقيقة في كلمات الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره، موضّحاً لها تارةً، ومحقّقاً لنكاتها تارةً اُخرى بكلّ عمقٍ وقوّة.
هذه كانت بعض مزايا (منهاج فقاهة) سماحة الاُستاذ (دامت بركاته) ، والمزايا الاُخرى أترك للقارئ الكريم اكتشافها.
ونظراً لأهمّية الكتاب، ونفوذ نسخهِ من الأسواق، وتكرّر الطلب عليه، فقد تقرّر تجديد - ه -
طباعته، وإخراجهُ بحلّةٍ قشيبةٍ تليقُ به، وبما أنّ الطبعات السبع السابقة للكتاب كانت لا تخلو عن الأخطاء الإملائيّة، ومشتملةً على سقط بعض العبارات؛ لذلك تركّز الاهتمام في هذه الطبعة على تصحيح الأخطاء وترميم مواضع السقط فيها.
فجاءت هذه الطبعة - بحمد اللّٰه تعالى - تحكي عن سعيٍ حثيثٍ وجهودٍ مشكورةٍ، قامت به لجنة التحقيق في سبيل الرقيّ بهذا الكتاب الشريف إلى المستوى اللّائق بشأنه، ليزداد نفعُه، ويتضاعف عطاؤه، وتنمو فوائده.
فلا يسعنا - ونحن في نهاية مطاف هذه المقدّمة - إلّاأن نتقدّم بأسمى آيات الشكر للعلماء الذين تكفلوا القيام بهذه المهمّة الجليلة، رافعين أيدي الضراعة إلى اللّٰه تعالى ليحفظ سماحة السّيد المُفدّى من كلّ سوءٍ ومكروه، ويديم ظلالهُ وارفةً على رؤوس المؤمنين، بحقّ أجداده الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.
لجنّة التحقيق
6
الحمد للّٰهعلى ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ، والصلاة والسلام على أشرف النفوس القُدسيّة، وأزكى الذوات المطهّرة الملكيّة، محمّدٍ المصطفىٰ وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحق.
وبعد: فهذا هو الجزء الأوّل من كتابنا «منهاج الفقاهة» ، ويليه خمسة أجزاء اُخرى، وهي شرح لكتاب «المكاسب» للشيخ الأعظم، خاتمة الرعيل الأوّل من المجتهدين، وأفضل المتأخّرين، آية اللّٰه العظمىٰ الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، الذي أصبح اليوم منتجع العلم، ومحور الدراسة فيالحوزات العلمية، إذ كانت مباحث هذا الكتاب فاتحة عهد جديد مبارك في الدراسات الفقهيّة، والتتبّع والتحقيق، ولذا فهي تقتضي مزيداً من العناية بشرحها، وتيسير الاطّلاع عليها، وهذا ما توخيناه فى هذا الكتاب، واللّٰه من وراء القصد.